في السنوات الأخيرة، ظهر نوع جديد من الأسلحة في ساحات المعارك يُعرف بـ المُسيّرة الانقضاضية1 ، وهو نظام لا يطلق ذخائره ثم ينساها، بل يحوم في السماء، يراقب بصمت. غالبًا ما تُوصف هذه الأنظمة الموجهة بدقة بأنها هجين بين المُسيرات والصواريخ، وهي قادرة على التحليق فوق منطقة معينة قبل تحديد الهدف وضربه بدقة مميتة. هذه الأسلحة، التي كانت تُعد في السابق أدوات متخصصة، أصبحت الآن في صدارة النزاعات حول العالم، وسرعان ما أصبحت خيارًا مفضلاً للجيوش الحديثة.

تختلف المُسيرات الانقضاضية عن المُسيرات التقليدية في تصميمها ووظيفتها وأدوارها الاستراتيجية. بينما تُصمم المُسيرات التقليدية لمهام متعددة وتتطلب عادةً طاقمًا أرضيًا للتحكم فيها في الوقت الفعلي، وتعود إلى القاعدة بعد إنجاز مهمتها، فإن المُسيرات الانقضاضية لها مهمة ذات اتجاه واحد: البحث عن هدف وتدميره في مكانه. تُستخدم هذه المُسيرات عادةً لمرة واحدة، حيث تنقض وتتفجر عند العثور على هدف، مما يدمرها في هذه العملية. هذا يجعلها أرخص في الإنتاج والنشر، على سبيل المثال، يمكن أن تكلف انقضاضية سويتشبليد بضعة آلاف من الدولارات للوحدة، مما يجعلها أكثر قابلية للاستهلاك من الطائرات بدون طيار التقليدية التي قد تصل تكلفتها إلى ملايين الدولارات. كما أن المُسيرات الانقضاضية تتطلب حد أدنى من التدخل البشري، حيث يمكن للعديد منها التنقل ذاتيًا، والبحث عن الأهداف، وحتى اتخاذ قرار الضربة بناءً على برمجتها.
تاريخ وتطور الانقضاضيات
على الرغم من أنها قد تبدو اختراعًا حديثًا، إلا أن جذور الانقضاضية تعود إلى عدة عقود. بدأ المفهوم في التبلور في ثمانينيات وتسعينيات القرن الماضي، حيث سعت الجيوش إلى الحصول على سلاح يوفر المراقبة المستمرة وضربة دقيقة دون تعريض الطيارين أو الأصول عالية القيمة للخطر. أحد أقدم الأمثلة وأكثرها تأثيرًا كان الطائرة الإسرائيلية هاروب، التي طورتها صناعات الفضاء الإسرائيلية، والتي يمكن أن تحلق فوق ساحة المعركة لفترات طويلة، وتحدد أنظمة الرادار التي تصدر إشعاعًا، ثم تنقض لتدميرها. في نفس الوقت تقريبًا، جربت الولايات المتحدة أنظمة مُسيرات انقضاضية مبكرة، مثل برنامج قذيفة «آي جي إم-136 تاست رينبو (قوس قزح الصامت)» AGM-136 Tacit Rainbow التابع للقوات الجوية الأمريكية في الثمانينيات، والذي كان يهدف إلى تطوير صاروخ منخفض التكلفة يُطلق جوًا وقادر على التحليق فوق ساحة المعركة للكشف عن أنظمة رادار العدو وتدميرها. ومع ذلك، تم إلغاء المشروع في نهاية المطاف في عام 1991 بسبب التحديات التقنية.
في السنوات التي تلت ذلك، تابعت الولايات المتحدة مبادرات أخرى للمُسيرات الانقضاضية، ولكن لم تظهر أنظمة عملية وقابلة للنشر على نطاق واسع حتى العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، مع التقدم في المواد خفيفة الوزن وتقنيات الحكم الذاتي. ومن الأمثلة البارزة على ذلك نظام إيروفيرونمنت سويتشبليد AeroVironment Switchblade، الذي تم تقديمه في عام 2011، والذي وفر للقوات الأمريكية المُسيرة انقضاضية محمولة تطلق من أنبوب وقادرة على المراقبة في الوقت الفعلي والضربات الدقيقة. وقد أرست هذه الجهود المبكرة الأساس للمُسيرات الانقضاضية التي نراها منتشرة على نطاق واسع اليوم.
استخدام الانقضاضيات في النزاعات الحديثة
في العقد الثاني من القرن الحادي والعشرين، انتقلت هذه الأسلحة من كونها متخصصة إلى أن تصبح رئيسية، خاصة بعد أن أثبتت فعاليتها في النزاعات الواقعية. كانت نقطة التحول خلال حرب ناغورنو كاراباخ عام 2020، حيث استخدمت أذربيجان على نطاق واسع المُسيرات الانقضاضية مثل الطائرات الإسرائيلية هاروب و أوربيتر. وقد تم نشر هذه الأنظمة ضد القوات الأرمنية بنتائج مدمرة، حيث دمرت الدبابات والمدفعية وحتى مراكز القيادة.
توسع دورها بشكل أكبر في الحرب الروسية الأوكرانية، حيث نشر الجانبان أعدادًا كبيرة من الطائرات الانتحارية، والطائرات الكاميكازية، ومُسيرات سويتشبليد الانقضاضية. فقد تلقت أوكرانيا، على سبيل المثال، طائرات سويتشبليد التي زودتها بها الولايات المتحدة، وهي صغيرة ومحمولة ومثالية لوحدات المشاة في الخطوط الأمامية. في الوقت نفسه، استخدمت روسيا طائرات شاهد إيرانية الصنع، وهي شكل آخر من أشكال المُسيرات الانقضاضية، لاستهداف البنية التحتية الأوكرانية. كما استخدمت روسيا نظام لانست الخاص بها في سوريا وأوكرانيا. وقد سمحت هذه المُسيرات لكلا الجانبين بتنفيذ هجمات دقيقة بعيدًا عن خطوط الجبهة، وغالبًا ما تجاوزت الدفاعات الجوية التقليدية.
وفي الشرق الأوسط، لعبت المُسيرات الانقضاضية دورًا متزايد الأهمية. فقد استخدمت الجماعات المسلحة الطائرات المتفجرة والانتحارية لضرب القواعد العسكرية ومنشآت النفط والقوافل، على سبيل المثال، في اليمن، استخدم المتمردون الحوثيون، الذين يُعتقد أن إيران تدعمهم، مرارًا وتكرارًا طائرات انقضاضية لاستهداف أصول سعودية وإماراتية. وفي مارس 2025، أفادت وسائل الإعلام الرسمية في كوريا الشمالية أن الزعيم كيم جونغ أون أشرف على اختبار طائرات استطلاع وانتحارية مزودة بالذكاء الاصطناعي.
فعالية وقدرات الانقضاضيات
أثبتت المُسيرات الانقضاضية أنها متعددة الاستخدامات، حيث قامت بمجموعة واسعة من المهام. تشمل القدرات الرئيسية الاستطلاع والمراقبة، حيث يمكن للعديد منها، مثل سويتشبليد، أن تحوم فوق منطقة ما لفترات طويلة، وتجمع معلومات استخباراتية عن مواقع العدو، وتحركات القوات، والأهداف السانحة. بعضها مصمم خصيصًا لاستهداف وتدمير المركبات المدرعة والدبابات، مثل سويتشبليد 600. تُصمم أنظمة مثل هاروب وهاربي الإسرائيلية لاستهداف وتدمير أنظمة الرادار والأنظمة الإلكترونية الأخرى (مهام مكافحة الإشعاع)، مما يجعلها مثالية لتعطيل أنظمة الدفاع الجوي للعدو. كما أنها قادرة على تنفيذ الضربات الجراحية والاغتيالات، مما يقلل من الأضرار الجانبية، وهذا يجعلها مفيدة للقضاء على الأهداف عالية القيمة مثل مراكز القيادة أو حتى القادة الرئيسيين في الحروب الحديثة.
تكمن قوتها الأساسية في قدراتها على الضربات الدقيقة، حيث يمكنها أن تحوم بصمت فوق ساحة المعركة، وتراقب الأهداف في الوقت الفعلي، وتنفذ هجمات دقيقة بأقل قدر من الأضرار الجانبية. وهذا يجعلها مثالية للحرب الحضرية، وتكتيكات الكر والفر، أو ضرب الأهداف المتحركة التي قد تفوتها الصواريخ التقليدية. ومن المزايا الرئيسية الأخرى ملفها الراداري المنخفض وقدرتها العالية على المناورة، حيث أن العديد من الطائرات الانقضاضية صغيرة وسريعة وتطير على ارتفاعات منخفضة، مما يجعل من الصعب اكتشافها واعتراضها.
لدى هذه الانقضاضيات أيضًا تأثير نفسي كبير على الخصوم، فالتهديد المستمر بوجود «طائرة انتحارية» صامتة وغير مرئية تحوم في السماء قد غير طريقة تصرف القوات في الميدان، ويمكن أن يجبر الأعداء على تقييد اتصالاتهم اللاسلكية، أو التخلي عن المواقع المكشوفة، أو التردد أثناء المناورة. ومن الناحية اللوجستية، تتطلب الانقضاضية غالبًا حد أدنى من البنية التحتية، حيث يمكن حمل أنظمة مثل سويتشبليد الانقضاضية التي يحملها فرد واحد ونشرها بواسطة جندي واحد في دقائق. وفي القتال الفعلي، أظهرت أنظمة الانقضاضية مرارًا وتكرارًا قيمتها في تدهور عقد القيادة والتحكم للعدو.
في العقيدة العسكرية الحديثة، وجدت أنظمة المُسيرات الانقضاضية دورًا فريدًا ومكملاً ضمن الحرب المرتكزة على الشبكة. تتلاءم هذه الأسلحة بسلاسة مع الاستراتيجيات التي تؤكد على المرونة والدقة وسرعة اتخاذ القرار. تُعتبر المُسيرات الانقضاضية غالبًا امتدادًا لأنظمة الطائرات بدون طيار الأخرى والمدفعية، مما يوفر تغذية راجعة في الوقت الفعلي للقادة. من خلال تمكين الوحدات الأصغر والأكثر تخصصًا من تنفيذ ضربات دقيقة خلف خطوط العدو أو في البيئات المتنازع عليها، تعزز المُسيرات الانقضاضية مرونة وقدرة الوصول للقوات العسكرية الحديثة.
قيود المُسيرات الانقضاضية
على الرغم من تزايد أهميتها، لا تخلو المُسيرات الانقضاضية من العيوب. أحد نقاط ضعفها الرئيسية هو قابليتها للحرب الإلكترونية. نظرًا لأن العديد منها يعتمد على نظام تحديد المواقع العالمي (GPS) أو روابط البيانات للملاحة والاستهداف، يمكن تشويشها، أو تزييف إشارتها، أو اختطافها من قبل خصوم قادرين. ويُعد الطقس عاملاً مقيدًا آخر، حيث يمكن للرياح العاتية، أو الأمطار، أو الضباب الكثيف أن تعيق استقرار الطيران وأداء المستشعر، خاصة بالنسبة للأنظمة خفيفة الوزن. كما أن نطاقها وقدرتها على التحمل محدودة مقارنة بالطائرات بدون طيار الأكبر.
إلى جانب التحديات التقنية، هناك مخاوف أخلاقية وقانونية متزايدة، لا سيما حول استخدام المُسيرات الانقضاضية في أدوار الضربة المستقلة أو مهام الاغتيال. فالخط الفاصل بين الإشراف البشري واتخاذ القرار الآلي يثير أسئلة صعبة حول المساءلة، خاصة في المناطق المدنية أو نزاعات المنطقة الرمادية. أخيرًا، مع تزايد شيوع هذه الطائرات، تتزايد أيضًا تقنيات مكافحة الطائرات بدون طيار. تستثمر الدول بسرعة في أجهزة التشويش، والمعترضات الحركية، وشبكات صيد الطائرات بدون طيار، وأنظمة الدفاع الجوي المتكاملة المصممة خصيصًا للكشف عن التهديدات الجوية الصغيرة وتحييدها.
قد لا تحل المُسيرات الانقضاضية محل كل سلاح تقليدي، لكنها بلا شك تعيد تشكيل كيفية بدء الحروب الحديثة وتصعيدها وتطورها. إن دقتها وقدرتها على المناورة وقدرتها على التحليق فوق الأهداف قبل الضرب تجعلها أدوات قيمة للمراقبة والهجوم. وقد أثبتت أنظمة مثل سويتشبليد الانقضاضية أو الطائرات الانتحارية قيمتها في كل من النزاعات واسعة النطاق والاشتباكات غير المتكافئة. ومع ذلك، فإن فعاليتها تأتي مع مفاضلات، فهذه الطائرات لا تزال عرضة للحرب الإلكترونية، والظروف الجوية، والدفاعات الناشئة المضادة للطائرات بدون طيار. ومع ذلك، على الرغم من هذه القيود، فإن الأسلحة الانقضاضية تملأ فجوة حرجة، حيث توفر قدرات ضرب سريعة ومرنة ومنخفضة التكلفة نسبيًا حيث قد تكون الأصول التقليدية قاصرة.
هامش
- قد تعرف أيضا بمسميات أخرى غلى غرار: طائرة انقضاضية أو ذخيرة انقضاضية ↩︎