مفارقة التسامح

تُعَدّ «مفارقة التسامح» واحدة من أكثر الإشكاليات الفلسفية التي تثير النقاش حول طبيعة المجتمعات الحرة، وهي المفارقة التي صاغ معالمها الفيلسوف كارل بوبر في كتابه «المجتمع المفتوح وأعداؤه» منتصف القرن العشرين. وتتمثل هذه المفارقة في التوتر القائم بين مبدأ التسامح من جهة، وحاجة المجتمع إلى الدفاع عن نفسه ضد قوى الرفض والتعصب من جهة أخرى.

أصل المفارقة

يبدو التسامح للوهلة الأولى قيمة مطلقة ينبغي أن تُمنح لكل فرد أو جماعة، باعتبارها ضمانة للحرية الفكرية والسياسية والدينية. غير أنّ بوبر نبّه إلى خطورة هذا الإطلاق؛ إذ إن فتح المجال غير المحدود للخطابات المتطرفة والمعادية للتسامح يؤدي إلى أن تستغل تلك التيارات المناخ الحر كي تقوضه من الداخل، بل لتفرض في النهاية نظاماً استبدادياً يجهض كل قيم التعددية والانفتاح. وهنا تبرز المفارقة: لكي يحيا التسامح، لا بد له من أن يكون غير متسامح مع من يسعى إلى إفنائه.

التبرير الفلسفي

لا يعني هذا المنظور أن المجتمع الحر يشرعن القمع أو يسوغ الاستبداد، بل يقرر أن حرية التعبير حق مشروط باحترام الأسس التي تقوم عليها الحياة المشتركة. فالدعوات إلى الإقصاء أو التحريض على الكراهية والعنف ليست مجرد «آراء» قابلة للنقاش، بل هي تهديد مباشر لسلامة المجتمع. ومن هنا تبرز ضرورة وضع حدود للتسامح، حدود لا تقام بدافع الانتقام أو الانتقائية، بل من أجل حماية الإطار الذي يسمح ببقاء التعددية.

أمثلة تاريخية

يمكن إدراك وجاهة هذه الفكرة عند تأمل صعود النازية في ألمانيا خلال ثلاثينيات القرن العشرين. فقد استغل الحزب النازي فضاء الحرية في جمهورية فايمار، فاستخدم آليات الديمقراطية ليصل إلى الحكم، ثم ما لبث أن دمّرها بالكامل. إنّ هذه التجربة التاريخية تكشف كيف يمكن أن يؤدي التسامح المطلق مع خطاب متعصب إلى الانتحار السياسي للمجتمع الحر.

أمثلة معاصرة

وفي السياق المعاصر، يطرح النقاش نفسه حول الجماعات التي تروّج لخطابات الكراهية أو العنف الديني والسياسي في المجتمعات الديمقراطية. فالسؤال الدائم: هل يُسمَح لتلك الجماعات بالعمل العلني تحت غطاء حرية التعبير والتنظيم؟ أم يجب على الدولة والمجتمع المدني وضع قيود تحُول دون استغلال الحرية لإلغاء الحرية؟ إنّ التجربة الأوروبية مع جماعات متطرفة ـ دينية أو قومية ـ تُظهر أنّ غياب الحزم قد يفتح الباب أمام تهديد السلم الاجتماعي وتقويض المؤسسات الديمقراطية.

البُعد الأخلاقي

على المستوى الأخلاقي، تتجاوز المفارقة حدود السياسة لتطرح سؤالاً عن العدالة: هل يُعَدّ من العدل أن نمنح من يرفض وجود الآخر الحق نفسه الذي نمنحه للمؤمن بالعيش المشترك؟ وهل يمكن للتسامح أن يظل قيمة خيّرة إذا ساعد قوى الشر على السيطرة؟ الإجابة التي يقترحها بوبر أنّ العدل الحقيقي يقتضي حماية المجال الذي يجعل العدالة ممكنة أصلاً، أي فضاء الحرية والتعددية.