♢ميز عن عقدة الرجل الأبيض
في نهاية القرن التاسع عشر، ومع اشتداد وطأة الاستعمار على شعوب العالم بدأت أصوات المثقفين والسياسيين في الغرب تتحدث عن عبء الرجل الأبيض وكأنه واجب مقدس. لك أن تخيّل، للحظة، رجلًا أبيضًا أوروبيًا مستعمرًا، يعتمر قبعة أنيقة، واقفًا على تل مرتفع. يطلّ من فوقها على شعب جديد، استحوذت بلداه على بلادهم، تختلج في عينيه مشاعر التعجّب والتفوّق. يرى هؤلاء البشر مختلفين عنه، بثقافاتهم التي تبدو له بدائية، في الوقت الذي يرى فيه نفسه ونظرته للحياة قمة الحضارة والتقدم. يتأمل في عاداتهم وتقاليدهم، ويشعر بالتفوق على ما يبدو له عالمًا غريبًا، محاطًا بتصوراتٍ منقوصة عن إنسانيتهم. وفي ذهنه، يعتقد أن ما يقوم به ليس احتلالًا أو طمعًا، بل هو مهمة نبيلة. يشعر أنه موكّل بنقل العلم والدين والنظام إلى هؤلاء الناس الذين يراهم في نظره في حاجة إلى التوجيه والإرشاد. يتخيل نفسه كالمُعلّم، الذي يحمل رسالة حضارية، ويسعى لتغيير واقعهم، في إطارٍ من اعتقاده بأنه يُعزز من قيمتهم ويُحسّن من مستوى حياتهم. هكذا صاغ الشاعر البريطاني روديارد كيبلينغ فكرة عبء الرجل الأبيض عندما كتب قصيدته التي تحث الولايات المتحدة على استعمار الفلبين داعيًا إياها لتحمل العبء. ولكن مع مرور الزمن أصبح هذا المصطلح يُستخدم بشكل ناقد ليعكس النظرة المتعالية التي اعتقد بها المستعمرون بتصويرهم للاستعمار كخدمة إنسانية في حين كان في الواقع تبريرًا لاستغلال ونهب شعوب برُمّتها.
ماهو مصطلح عبء الرجل الأبيض؟
عبء الرجل الأبيض هو مصطلح يستخدم لوصف شعور أو موقف معين لدى بعض الأشخاص البيض تجاه الشعوب غير البيضاء. ويعود جذوره إلى فكرة الاستعلاء العرقي التي نشأت خلال فترات الاستعمار الأوروبي. ويشير المصطلح إلى اعتقاد الغرب بأن من واجبه تمدين أو تحضير الشعوب الأخرى، وأنه يمتلك مهمة حضارية تجاه المجتمعات التي يعتبرها أقل تطورًا.
أول من استخدم هذا المصطلح
الكاتب البريطاني روديارد كيبلينغ هو من أوائل من صاغ هذه الفكرة في قصيدته عبء الرجل الأبيض عام 1899 حيث صور الاستعمار كواجب أخلاقي للغرب تجاه الشعوب المستعمَرة. وعلى الرغم من أن القصيدة جاءت بمدلول مباشر حول مسؤولية الرجل الأبيض إلا أنها أصبحت رمزًا للسياسات الاستعمارية وتبريرها الأخلاقي، مما يعكس إحساسًا بالتفوق العرقي والثقافي الذي هيمن على العلاقات بين الشرق والغرب.
في العصر الحديث يستخدم المصطلح بشكل ناقد لتحليل واستنكار مواقف بعض الأفراد أو الدول الغربية التي تعتقد أنها تمتلك دورًا خاصًا في قيادة الشعوب الأخرى أو التأثير عليها سواء عن طريق التدخل السياسي أو المساعدات الدولية أو التأثير الثقافي.
كيف يتم استخدام هذا المصطلح؟
مصطلح عبء الرجل الأبيض يُستخدم عادةً لوصف حالتين أو ظاهرتين أساسيتين:
1. الشعور بالذنب التاريخي:
يُستخدم المصطلح لوصف الشعور بالذنب أو المسؤولية الذي يشعر به بعض الأشخاص البيض نتيجة التاريخ الاستعماري أو العنصري، وفي هذا السياق قد يشعر الفرد بأن عليه تحمل مسؤولية الأفعال التي ارتكبها أجداده أو المجتمع الذي ينتمي إليه في الماضي. ويُستخدم في نقاشات حول العدالة العرقية أو التاريخ الاستعماري، حيث يُعبر عن القلق أو الرغبة في إصلاح الأضرار السابقة عن طريق دعم حركات أو سياسات لتعويض المظلومين. مثال: بعض الأشخاص يشعرون بعبء الرجل الأبيض عندما يتعلق الأمر بقضايا الاستعمار ويطالبون بتعويضات أو إجراءات لتحسين أوضاع الشعوب التي عانت من الاستعمار.
2. الاستعلاء الثقافي:
في هذا السياق يشير المصطلح إلى الميل الذي ظهر خلال فترات الاستعمار حيث اعتقد المستعمرون الأوروبيون (غالبًا ما يكونون من البيض) بأنهم متفوقون ثقافيًا وحضاريًا على الشعوب التي احتلوها وبأن من واجبهم تمدين تلك الشعوب، ويتم استخدام هذا المفهوم بشكل ناقد في النقاشات حول الاستعمار والثقافة، للتعبير عن رفض فكرة التفوق العرقي أو الثقافي. مثال: فكرة أن القوى الغربية كانت تعتقد أنها تحمل عبء تمدين الشعوب الأخرى هي مثال واضح على عبء الرجل الأبيض التي كانت سائدة في ذلك الوقت.
يمكن استخدام المصطلح في النقاشات الحديثة المتعلقة بالتمييز العنصري سواء في تحليل سلوكيات معينة أو لانتقاد ما يُعتبر نظرة متعالية من قبل البعض عند التعامل مع قضايا عرقية أو إنسانية.
ختامًا، يجسّد مصطلح عبء الرجل الأبيض فكرة متأصلة عن الهيمنة الثقافية التي أثرت على العلاقات الدولية، والسياسات الاستعمارية القديمة، وأحيانًا حتى على نظرتنا للمساعدات الإنسانية اليوم فقد أصبح هذا المصطلح رمزًا للآثار السلبية التي خلفها الاستعمار سواء من تهميش ثقافات الشعوب المستعمَرة أو محاولات فرض القيم الغربية عليها.
واليوم، وفي ظل الوعي المتزايد بأهمية احترام التنوع الثقافي والسياسي، لا يزال هذا المصطلح تذكيرًا بأهمية التواضع والانفتاح عند التعامل مع الثقافات الأخرى. ويمثل عبء الرجل الأبيض دعوة للتخلي عن الاستعلاء واحترام قدرات الشعوب المختلفة، والعمل على بناء علاقات دولية قائمة على الاحترام المتبادل والشراكة الحقيقية بدلًا من الفوقية التي ميزت العصور الماضية.
المراجع
المصادر:
فيما يلي المصادر العربية والإنجليزية:
المصادر باللغة العربية:
- الجزيرة نت. (2023، 7 يوليو). عبء الرجل الأبيض.
- الغد. (2011، 25 تموز). عبء الرجل الأبيض: الوجه القديم الجديد للاستعمار.
- الجزيرة مدونات. (2022، 16 فبراير). جولة في عقلية الرجل الأبيض.
- البيان. (2017، 11 أكتوبر). أهمية الاستقرار في عالم متغير.
المصادر باللغة الإنجليزية:
- 1Said, Edward. Orientalism. New York: Pantheon Books, 1978.
- Easterly, William. The White Man’s Burden: Why the West’s Efforts to Aid the Rest Have Done So Much Ill and So Little Good. New York: Penguin Press, 2006.
- Fanon, Frantz. The Wretched of the Earth. New York: Grove Press, 1963.
- Riley, Robin. “Colonialism and ‘The White Man’s Burden’: The Rhetoric of Empire and the Logic of Genocide.” History and Memory, vol. 12, no. 1, 2000, pp. 72-94.
- Benfey, Christopher. “The White Man’s Burden: Kipling and Imperialism.” The New York Review of Books, vol. 51, no. 7, 2004.
- Gretchen Murphy’s book, Shadowing the White Man’s Burden: U.S. Imperialism and the Problem of the Color Line, provides an analysis of how the notion of the “White Man’s Burden” was used to rationalize U.S. and European imperialism. Murphy examines the racial and literary implications of this concept in American society and literature, particularly how it influenced racial attitudes and justifications for colonial governance (New York University Press, 2010).
- Michael Adas’ article, Kipling’s “The White Man’s Burden” and Its Afterlives, explores how Kipling’s original text was adopted and critiqued in various socio-political contexts, especially in the Philippines under American rule. Adas documents both supportive and critical reactions to the poem, showing how it underscored the moral rationale behind imperialism while also fueling anti-imperialist sentiments among critics (Project MUSE).
- Academic studies, such as those found on platforms like Oxford Academic and Project MUSE, delve into the broad impact of Kipling’s work on U.S. and British imperial attitudes, showing how the “burden” idea was interwoven into colonial policies and later critiqued for its paternalistic undertones.