يمثل الجيروندان (Girondins) فصيلاً سياسياً حاسماً في تاريخ الثورة الفرنسية، ظهروا كقوة رئيسية في الجمعية التشريعية (Assemblée législative) ثم في المؤتمر الوطني (Convention nationale). يُعدّ الجيروندان، الذين استمدوا اسمهم من أعضائهم البارزين القادمين من إقليم جيروند (Gironde) مثل غاديت (Guadet)، جينسونيه (Gensonné) و فيرنيو (Vergniaud)، من أبرز الفصائل التي أثرت في مسار الثورة خلال مرحلتها الوسطى، قبل أن تصطدم مع الجبليين (Montagnards) الأكثر راديكالية، مما أدى إلى سقوطهم المأساوي.
1. النشأة والأيديولوجيا الأولية
برز الجيروندان كجناح يساري قوي في الجمعية التشريعية المنتخبة في 1 أكتوبر 1791، حيث ضمت 136 نائباً مسجلين في نادي اليعاقبة (Jacobins). على الرغم من أن قيادتهم كانت تميل إلى تفضيل الصالونات على اجتماعات اليعاقبة اليومية، إلا أنهم كانوا ينتمون إلى التيار الجمهوري بشكل عام. كان من أبرز قادتهم جاك بيير بريسو (Jacques Pierre Brissot)، الذي كان يُنظر إليه كزعيم للجيروندان في تلك الفترة، وبيير فيكتورنيان فيرنيو (Pierre Victurnien Vergniaud)، وآرماند جينسونيه (Armand Gensonné)، ونيكولا دو كوندورسيه (Nicolas de Condorcet).
كانت أيديولوجيا الجيروندان، ولا سيما فصيل بريسو، تميل إلى الجمهورية . وقد عارض قادتهم فكرة جمهورية تنشأ من تمرد شعبي (insurrection populaire) غير قانوني، مثل كوندورسيه ورولان وبريسو وفيرنيو وغاديت. كانوا يؤمنون بضرورة تقليل الفوارق الاجتماعية والاقتصادية الصارخة من خلال الضرائب، لضمان الوئام الاجتماعي وقبول النظام القائم. كما دافعوا عن مبادئ الحرية والعقلانية، وتأثروا بفلاسفة التنوير (Siècle des Lumières) مثل فولتير وديدرو .
2. موقف الجيروندان من الحرب: الشرارة الكبرى
كان الجيروندان من أشد المؤيدين للحرب. رأى بريسو، في 5 مايو 1792، أن الحرب هي «القانون الأكثر فعالية» (la plus efficace des lois). اعتقد الجيروندان أن الحرب ستكون وسيلة لتصدير الثورة إلى أوروبا وتوحيد الأمة الفرنسية. وقد صرح جينسونيه بأن الحرب «ضرورية، والرأي العام يطالب بها، والمصلحة العامة تأمر بها».
مع ذلك، واجهت دعواتهم للحرب معارضة شديدة من ماكسيميليان روبسبيير وغيره من اليعاقبة الراديكاليين مثل دانتون (Danton)، وكاميل ديمولان (Camille Desmoulins)، وجان بول مارا (Marat)، وكولوت ديربوا (Collot d’Herbois). كان روبسبيير واقعياً بشأن عواقب الحرب، مصرحاً: «لنفرض سيطرتنا على أعدائنا في الداخل ثم نسير إلى جميع طغاة الأرض». كما كان يعتقد أن فكرة إجبار شعب أجنبي على تبني قوانين ودستور باستخدام القوة المسلحة هي «الفكرة الأكثر جنوناً» (La plus extravagante idée). واجهت هذه المعارضة اتهامات من الصحف الجيروندية مثل «لا كرونيك دو باريس» (La Chronique de Paris) التي وصفت روبسبيير ورفاقه بأنهم «عملاء للبلاط» ومعادون للحرب.
في النهاية، انتصرت فكرة الحرب، وأعلنت فرنسا الحرب على ملك بوهيميا والمجر في 20 أبريل 1792. وقد أظهر الملك لويس السادس عشر ازدواجية في موقفه، فبينما كان يعلن الحرب، كان يراسل سراً قادة أجانب مثل فرسن (Fersen) ويعرب عن شكوكه في قدرة الجيش الفرنسي على الصمود.
3. الصراع المبكر وسقوط الملكية
شهد عام 1791 وما تلاه تصاعداً في التوترات، حيث حاولت الجمعية الوطنية (Assemblée nationale) إنهاء أعمالها ووضع دستور، ولكن الأحداث كانت تتسارع.
- هروب الملك إلى فارين (Fuite de Varennes) في 20 يونيو 1791، حاول الملك لويس السادس عشر وعائلته الهروب من باريس، لكنهم أوقفوا في فارين (Varennes) وأُعيدوا إلى العاصمة في 25 يونيو 1791. وقد اعتبر الجيروندان هذا الهروب «اختطافاً» (enlevé!). لكن الشعب لم ينخدع، وبدأ التفكير في إمكانية الاستغناء عن الملك. خلال رحلة العودة، تأثر النائب بارناف (Barnave) بملكة ماري أنطوانيت (Marie-Antoinette) وتحول إلى دعم الملكية الدستورية. في المقابل، ظل بيتون (Pétion) بارداً ومحايداً، بل أظهر ميولاً جمهورية.
- مذبحة ساحة المارس (Massacre du Champ de Mars) في 17 يوليو 1791، شهدت ساحة المارس (Champ de Mars) مذبحة دموية عندما قام الحرس الوطني (garde nationale) بقيادة لافاييت (La Fayette)، بتفريق حشد كان يوقع عريضة تطالب بإلغاء الملكية وإعلان الجمهورية. أدت هذه المذبحة إلى مقتل مئات الأشخاص وإثارة غضب شعبي واسع. وقد استغل روبسبيير ودانطون ومارا وكاميل ديمولان هذه الحادثة لتأليب الرأي العام ضد لافاييت وبايي Bailly.
- أحداث 20 يونيو 1792 (Journée du 20 juin 1792) في 13 يونيو 1792، استخدم الملك حق النقض ضد مرسومين مهمين للجمعية الوطنية، أحدهما يتعلق بالكهنة الرافضين للقسم الدستوري (prêtres réfractaires) والآخر بتشكيل معسكر للـ«فدراليين» (fédérés) قرب باريس. رداً على ذلك، نظم الجيروندان يوم 20 يونيو كاحتجاج «سلمي» لإجبار الملك على التراجع. دخل الحشد قصر التويلري (Tuileries) وأجبر الملك على ارتداء قبعة الحرية الحمراء (bonnet rouge). أظهر الملك شجاعة في مواجهة الحشد، لكن الحدث أظهر ضعف السلطة الملكية. اتهم الجيروندان لاحقاً بالخبث.
- إعلان «الوطن في خطر» (La Patrie en danger) مع تدهور الأوضاع العسكرية وتصاعد التهديدات الخارجية، أعلن فيرنيو في خطاب حماسي أمام الجمعية في 3 يوليو أن «الوطن في خطر». في 11 يوليو، أقرت الجمعية المرسوم رسمياً. تزامن ذلك مع وصول المتطوعين الفدراليين إلى باريس، ومن بينهم فرقة مارسيليا (Marseillais) التي جاءت وهي تغني «لا مارسييز» (La Marseillaise)، الأغنية التي سرعان ما أصبحت رمزاً للثورة. في 25 يوليو، صدر «بيان براونشفايغ» (Manifeste de Brunswick) الذي هدد الباريسيين بالانتقام إذا ما تعرض الملك لأي أذى.
- يوم 10 أغسطس 1792 (Journée du 10 août 1792) كان هذا اليوم نقطة تحول حاسمة. في 10 أغسطس 1792، اندلع تمرد شعبي واسع النطاق، دبره مجلس إدارة سري (directoire secret) تشكل من قادة الفدراليين واليعاقبة مثل سانتيير (Santerre)، ودانطون، وكارا (Carra)، وألكسندر (Alexandre) وويسترمان (Westermann). هاجمت الحشود قصر التويلري، وقتل مئات من الحرس السويسري (gardes suisses) المدافعين عن الملك. لجأ الملك لويس السادس عشر وعائلته إلى الجمعية التشريعية. أعلنت الجمعية تعليق صلاحيات الملك (royauté suspendue) ودعت إلى عقد مؤتمر وطني جديد (Convention nationale) لإعادة كتابة الدستور. تم إعادة وزراء الجيروندان، رولان (Roland)، وكلافير (Clavière)، وسرفان (Servan) إلى مناصبهم، وعُين دانتون وزيراً للعدل.
4. الجيروندان في السلطة والصراع مع الجبليين
بعد سقوط الملكية، أصبح الجيروندان، الذي ضم شخصيات بارزة مثل فيرنيو وبريسو، القوة المهيمنة في المؤتمر الوطني. ومع ذلك، لم يدم هذا الهيمنة طويلاً.
- الخلافات الاقتصادية والسياسية تباينت سياسات الجيروندان مع الجبليين حول القضايا الاقتصادية والاجتماعية. بينما ركز الجيروندان على تقليل عدم المساواة الاجتماعية والاقتصادية من خلال الضرائب، ودعوا إلى عدم التدخل في أسعار السوق، سعى الجبليون إلى جذب دعم «السانس كولوت» (sans-culottes) – الحرفيين والعمال الذين لم يكونوا أثرياء بما يكفي للتصويت – من خلال تمرير قانون «الحد الأقصى» (loi du maximum) الذي حدد أسعار السلع الأساسية.
- محاكمة الملك لويس السادس عشر كانت محاكمة الملك لويس السادس عشر نقطة خلاف رئيسية. حاول الجيروندان تجنب إعدامه، مقترحين عقوبات بديلة، لكن الجبليين، بقيادة روبسبيير، أصروا على إعدامه كخائن للأمة. بعد إعدام الملك في 21 يناير 1793، استخدم الجبليون موقف الجيروندان هذا ضدهم، متهمين إياهم بالتعاطف مع الملكية.
- إنشاء المحكمة الثورية (Tribunal révolutionnaire) في 10 مارس 1793، وبناءً على اقتراح دانتون، أقر المؤتمر إنشاء المحكمة الثورية. وصف فيرنيو هذه المحكمة بأنها «استجواب فنيزي» (inquisition vénitienne)، وحذر هو وأصدقاؤه من مخاطرها وسلطتها التعسفية، التي أدت إلى شرعنة فترة «الرعب» (Terreur). كما تزامنت هذه الفترة مع اندلاع «انتفاضة فونديه» (insurrection vendéenne) في مارس 1793، التي كانت مدفوعة بمرسوم التجنيد الإجباري لـ 300 ألف رجل.
5. سقوط الجيروندان
مع تزايد قوة الجبليين وتزايد تأثير كومونة باريس (Commune de Paris) الراديكالية، بدأ الضغط يتزايد على الجيروندان.
- اعتقال مارا ورد فعل الجيروندان في 13 أبريل 1793، أمر الجيروندان باعتقال مارا بسبب «التشهير الكاذب» (dénonciations calomnieuses). ومع ذلك، برأته المحكمة الجنائية الاستثنائية (Tribunal criminel extraordinaire)، وعاد إلى الجمعية منتصراً في 24 أبريل 1793. رداً على تجاوزات كومونة باريس، عين الجيروندان «لجنة الاثني عشر» (Commission des Douze) مع صلاحيات اعتقال، بهدف التحقيق في أعمال الكومونة وضمان أمن الجمعية.
- أحداث 31 مايو و 2 يونيو 1793 (Journées des 31 mai et 2 juin 1793) كانت هذه الأحداث بمثابة الضربة القاضية للجيروندان. في 31 مايو و 2 يونيو 1793، نظمت كومونة باريس، بدعم من 36 قسماً (sections) من المدينة، أياماً من أعمال الشغب. حاصرت الجمعية الوطنية بـ 80,000 رجل مسلح بالحراب والمدافع، تحت قيادة قائد الحرس الوطني هانريو (Hanriot). تحت هذا الضغط، صوت المؤتمر الوطني على طرد واعتقال 29 نائباً جيروندياً واثنين من الوزراء، وزير الخارجية بيير ليبرون (Pierre Lebrun) ووزير المالية إتيان كلافير (Étienne Clavière).
احتج الجيروندان بأن «التمثيل الوطني» لم يعد حراً، وأن الجمعية تتداول «تحت خناجر القتلة» (sous les poignards des assassins). وقد وصف جينسونيه في رسالة إلى ناخبيه ما حدث في 2 يونيو بأنه محاولة من فصيل لحل المؤتمر الوطني واغتصاب صلاحياته. رداً على ذلك، أعلنت إدارة جيروند عن تشكيل «لجنة شعبية للسلامة العامة» (Commission populaire de Salut public) في 9 يونيو، مؤكدة سيادة شعب جيروند وداعية إلى استعادة الحرية في المؤتمر الوطني. احتج 75 نائباً برلمانياً على هذا التصويت القسري.
- المحاكمة والإعدام بعد هزيمتهم، تم اتهام الجيروندان بالفدرالية (fédéralisme) والملكية (royalisme) ومناداة إنقاذ الملك. في 3 أكتوبر 1793، تم إسقاط عضوية النواب الـ 75 الذين وقعوا على الاحتجاج ضد أحداث 2 يونيو، وصدرت أوامر باعتقالهم.
وفي 31 أكتوبر 1793، حُكم على 21 نائباً من الجيروندان بالإعدام وتم إعدامهم بالمقصلة (guillotinés). كان من بينهم جاك بيير بريسو (Jacques Pierre Brissot)، وبيير فيكتورنيان فيرنيو (Pierre Victurnien Vergniaud)، ومارك دافيد لاسورس (Marc David Lasource)، وجان فرانسوا دوكو (Jean-François Ducos)، وآرماند جينسونيه (Armand Gensonné)، وكلود رومين لوز دو بيريه (Claude Romain Lauze de Perret)، وجان لوي كارّا (Jean-Louis Carra)، وجان فرانسوا مارتن غارديان (Jean-François Martin Gardien)، وشارل إيلينور دو فريش-فالازيه (Charles Éléonor Dufriche-Valazé)، الذي انتحر في قاعة المحكمة بعد تلاوة الحكم.
6. شخصيات بارزة وآراؤها
كانت شخصيات الجيروندان متعددة الأوجه، ولكل منها مساهماته ومواقفه المتباينة.
- ماكسيميليان روبسبيير (Maximilien Robespierre): عارض الحرب الهجومية، وركز على الأعداء الداخليين، وكان يدعو إلى التغيير الاجتماعي الراديكالي. اتسم بالشك في الوزراء والجنرالات، وهاجم لافاييت وبريسو، ووضع برنامجاً سياسياً للمتمردين المستقبليين.
- جورج جاك دانتون (Georges Jacques Danton): في البداية اتبع روبسبيير في موقفه من الحرب. بعد سقوط الملكية، أصبح وزيراً للعدل. عُرف بجرأته وقدرته على حشد «السانس كولوت». يُقال إنه تلقى أموالاً من القائمة المدنية (liste civile) للملك.
- جان بول مارا (Jean-Paul Marat): صحفي تحريضي، دعا إلى تعيين دكتاتور، وهاجم لافاييت والملكيين. كان يدعو إلى تصفية «الخونة» في الجمعية.
- كاميل ديمولان (Camille Desmoulins): صحفي ساخر، من أوائل الدعاة للجمهورية، وناقد شديد للا فاييت. وصفه المصدر بأنه «طفل الثورة القاسي» (l’enfant cruel de la Révolution).
- جيلبرت دو موتيه دو لا فاييت (Gilbert du Motier de La Fayette): قائد الحرس الوطني، حظي بشعبية مبكرة بعد دوره في الثورة الأمريكية. حاول الحفاظ على النظام بعد مذبحة ساحة المارس، وعارض الفصائل الراديكالية. فقد شعبيته مع تزايد الشكوك حول ولائه للثورة.
- جيروم بيتون دو فيلنيوف (Jérôme Pétion de Villeneuve): عمدة باريس، كان له دور مشبوه في أحداث 20 يونيو 1792، حيث اتهم بالتواطؤ أو السلبية. يُطلق عليه «ملك بيتون» (roi Pétion) من قبل العامة.
- مدام رولان (Madame Roland): شخصية مؤثرة بين الجيروندان، جمهورية، مؤثرة على زوجها الوزير رولان. كانت لديها شكوك تجاه دومورييه (Dumouriez). أصبحت ضحية للإرهاب.
- بيير فيكتورنيان فيرنيو (Pierre Victurnien Vergniaud): خطيب جيروندي فصيح، هاجم الملك ودعا إلى إعلان «الوطن في خطر».
- جاك بيير بريسو (Jacques Pierre Brissot): زعيم الجيروندان والداعي الأقوى للحرب، وصحفي مؤثر.
- نيكولا دو كوندورسيه (Nicolas de Condorcet): جيروندي، عبر عن مخاوفه من التمرد، وسعى لحل الأزمة. اتهم الملك بتفضيل أعداء فرنسا.
- شارل فرانسوا دومورييه (Charles François Dumouriez): وزير الخارجية ثم وزير الحرب. كان ماهراً في التلاعب بالسياسة وموالياً للملكية في قلبه، لكنه كان براغماتياً.
7. السياق الأوسع: تأثيرات وديناميات
تجاوزت صراعات الجيروندان والجبليين مجرد خلافات فصائلية، متأثرة بديناميكيات أوسع.
- الحركة الشعبية: لعبت الجماهير و «السانس كولوت» (sans-culottes) دوراً حاسماً في الأحداث، مدفوعة بنقص الخبز وارتفاع الأسعار. أدت هذه الضغوط الشعبية إلى تصعيد العنف وتغيير مسار الثورة.
- الصراعات الدينية: أثارت مراسيم الجمعية ضد الكهنة الرافضين للقسم (prêtres réfractaires) توترات حادة، خاصة في المناطق الريفية.
- التدخل الأجنبي: كانت القوى الأوروبية مثل النمسا وبروسيا والسويد وإسبانيا وروسيا تراقب الثورة بقلق، وتخطط للتدخل.