بافل إيفانوفيتش بستل

بافِل إيفانوفيتش بيستل (Pavel Ivanovich Pestel)، المولود في موسكو في 5 يوليو (24 يونيو بالتقويم القديم) 1793، والمتوفى شنقاً في سانت بطرسبرغ في 25 يوليو (13 يوليو بالتقويم القديم) 1826، كان ثورياً روسياً وإيديولوجياً بارزاً لحركة الديسمبريين. وقد ارتقى بيستل إلى رتبة عقيد في الجيش الروسي، وكان يتمتع بذكاء كبير، ومعرفة واسعة، وقوة شخصية أهلته ليكون قائد الجمعية الجنوبية للديسمبريين ومؤسسها ومديرها. يُعد بيستل المؤلف الرئيسي للبرنامج الدستوري الراديكالي للحركة، والمعروف باسم روسكايا برافدا (العدالة الروسية). وقد انتهت حياته بالإعدام شنقاً في قلعة بطرس وبولس، مع أربعة قادة آخرين من الديسمبريين، بعد يوم واحد فقط من محاولة الديسمبريين تنظيم انقلاب عسكري في سانت بطرسبرغ.

1. النشأة والحياة العسكرية المبكرة

الخلفية العائلية والتعليم

ينحدر بافل بيستل من عائلة لوثرية من أصل ساكسوني (ألماني) استقرت في روسيا خلال عهد بطرس الأكبر. عند تعميده، سُمي بول بورخارد (Paul Burchard)، وكان الابن الأكبر لوالديه. خدم أسلافه في روسيا وشغل جده الأكبر وجده ووالده وعمه على التوالي منصب مدير خدمة البريد في موسكو، مشكلين نوعاً من السلالة الإدارية. أما والده، إيفان بوريسوفيتش بيستل (1765–1843)، فقد واصل الصعود في البيروقراطية السياسية ليصبح الحاكم العام لسيبيريا في الفترة من 1806 إلى 1821. إلا أن والده أقام نظاماً فاسداً في سيبيريا بالاشتراك مع نيكولاي تريسكين، حاكم إيركوتسك، مما أدى في النهاية إلى إقالته.

تلقى بيستل تعليمه الأولي في المنزل. وفي الفترة من 1805 إلى 1809، درس في دريسدن بألمانيا. وأظهر منذ سن مبكرة قدرة غير عادية على الاستيعاب والفهم، حيث كان أساتذته يقولون: «الآخرون يدرسون، أما هو فيفهم». عاد بيستل إلى روسيا عام 1810 ودرس في فيلق باج، وتخرج منه في رتبة براپورتشيك (ملازم ثانٍ) عام 1811. وتميز بتخرجه بامتياز حيث نُقش اسمه على لوح رخامي.

الخدمة في الحروب النابليونية

انخرط بافل بيستل في الخدمة العسكرية في فوج الحرس الليتواني. وشارك بفاعلية في الحرب الوطنية عام 1812 والحملات العسكرية الخارجية في 1813-1814. أصيب بيستل بجروح خطيرة في معركة بورودينو، ونظراً لأعماله، نال السيف الذهبي للشجاعة شخصياً من المشير كوتوزوف.

واصل بيستل تميزه في الحملات اللاحقة، فشارك في معارك دريسدن وكولم ولايبزيغ، حيث كان مساعداً للجنرال بيتر فيتجنشتاين. وحصل على العديد من الأوسمة الروسية والأجنبية تقديراً لشجاعته، بما في ذلك وسام القديس فلاديمير من الدرجة الرابعة ووسام ليوبولد النمساوي.

في عام 1821، عُين بيستل قائداً لفوج فياتكا للمشاة، الذي كان يتمركز في تولتشين (في أوكرانيا حالياً). وفي عام 1822، استطاع أن يعيد النظام إلى هذا الفوج الذي كان يعاني من التدهور. وقد أشاد الإمبراطور ألكسندر الأول بالفوج، واصفاً إياه بأنه «ممتاز، مثل الحرس تماماً».

2. حركة الديسمبريين والمجتمعات السرية

كانت الفترة التي تلت الحروب النابليونية هي المرحلة التي نضجت فيها أفكار بيستل الثورية، خاصة بعد احتكاكه بالأجواء الليبرالية في الخارج.

اتحاد الإنقاذ واتحاد الازدهار

انضم بيستل إلى «اتحاد الأصدقاء المتحدين» الماسوني في مارس 1812، ثم إلى محفل «الفرائض الثلاثة» عام 1816. وفي عام 1816، أصبح بيستل عضواً في اتحاد الإنقاذ (Союз спасения). وكان أحد مؤلفي ميثاق هذا الاتحاد. تمكن بيستل من إقناع جميع أعضاء الاتحاد بالموافقة على برنامج جمهوري، ووضع بذلك الأسس للتقاليد الجمهورية في الحركة التحررية الروسية. في هذه المرحلة، دعم بيستل أيضاً القمع الجماعي، واغتيال القيصر، والإبادة الجسدية لجميع أفراد العائلة الإمبراطورية.

في عام 1818، انضم بيستل إلى جمعية سرية أكثر ليبرالية تُدعى اتحاد الازدهار (Союз благоденствия)، والتي لم يكن لديها خطط لاغتيال القيصر في البداية. كانت هذه الجمعية تهدف إلى العمل في أربع مجالات: العمل الخيري، والتنوير، وتحسين القضاء، وتحسين الوضع الاقتصادي والمالي. وقد أسس بيستل فرع تولتشين لاتحاد الازدهار.

تأسيس وقيادة الجمعية الجنوبية

في يناير 1821، وبعد حادثة تمرد فوج سيميونوفسكي وتفاقم القمع الحكومي، قرر أعضاء اتحاد الازدهار في موسكو إغلاق الجمعية. ولكن عندما وصل المندوبون الجنوبيون إلى تولتشين وأبلغوا بقرار الإغلاق، أعلن الأعضاء هناك، بقيادة بيستل والجنرال يوشنيفسكي، رفضهم وقف تنظيمهم.

في مارس 1821، أسس بيستل وأصبح زعيماً للجمعية الجنوبية للديسمبريين. أعادت هذه الجمعية اعتماد النظام الداخلي والأهداف السياسية الثورية الصريحة التي كانت لدى اتحاد الإنقاذ. بفضل ذكائه الفائق ومهاراته الخطابية، سرعان ما أصبح بيستل على رأس المتآمرين. كانت الجمعية الجنوبية تهدف إلى الإطاحة بالقيصرية، وإلغاء القنانة، وإنشاء جمهورية.

سعى بيستل جاهداً لدمج الجمعية الشمالية للديسمبريين مع الجمعية الجنوبية. وقد سافر إلى سانت بطرسبرغ عام 1824 لمحاولة تحقيق هذا الدمج. ومع ذلك، كان توحيد وجهات النظر صعباً؛ إذ كان الشماليون (برئاسة نيكيتا مورافيوف ثم ريلييف) قد طوروا آراء مستقلة، وكانوا يختلفون بشدة مع بيستل حول العديد من القضايا، لا سيما طبيعة الحكومة المستقبلية ودرجة المركزية المطلوبة.

3. إيديولوجية بيستل و«روسكايا برافدا»

كانت الأفكار السياسية والاجتماعية لبيستل متبلورة في مشروعه الدستوري الذي أسماه روسكايا برافدا (Русская правда)، أو «الوصية الحكومية» (Конституция. Государственный завет). وقد تبنت الجمعية الجنوبية هذا المشروع كبرنامج سياسي لها.

الرؤية السياسية والاجتماعية (الجمهورية اليعقوبية)

  1. الشكل الحكومي: كان بيستل مدافعاً قوياً عن الجمهورية والمركزية الحكومية. كان يرى أن أي نظام ملكي دستوري غير مستقر، وأن الجمع بين الملكية والإرادة الشعبية مستحيل.
  2. إلغاء الامتيازات: طالب بيستل بالإلغاء الفوري للقنانة (العبودية) مع منح الأقنان أراضيهم. ودعا إلى إلغاء جميع الامتيازات الطبقية، مؤكداً على ضرورة «إزالة أي ظل للنظام الأرستقراطي، سواء كان إقطاعياً أو قائماً على الثروة».
  3. هيكل الحكومة (في الجمهورية): اقترح أن تكون السلطة التشريعية لروسيا هي المجلس الشعبي (Народное вече) المكون من غرفة واحدة. وأن تكون الدوما ذات السيادة (Державная дума) هي الفرع التنفيذي (على غرار هيئة المديرين الفرنسية)، وتمنح السلطة القضائية إلى المجلس الأعلى (Верховный собор).
  4. الديكتاتورية المؤقتة: أدرك بيستل أن روسيا غير مستعدة للجمهورية فوراً. لذلك، اقترح، بعد الإطاحة بالنظام الحالي وإبادة العائلة الحاكمة، تشكيل ديكتاتورية عسكرية على شكل حكومة مؤقتة تعمل لمدة تتراوح بين 8 إلى 10 سنوات لتهيئة الظروف لتطبيق النظام الجمهوري. كان هذا التوجه يعكس ميوله اليعقوبية (نسبة إلى اليعاقبة في الثورة الفرنسية).
  5. التنظيم الإداري: كان بيستل يسعى إلى توحيد روسيا قسراً في كيان سياسي واحد ومتجانس، رافضاً أي شكل من أشكال الحكم الذاتي الإقليمي. واقترح نقل العاصمة إلى نيجني نوفغورود.

الإصلاح الزراعي والجوانب الاقتصادية

كان الجانب الديمقراطي في خطة بيستل واضحاً بشكل خاص في المجال الاقتصادي والزراعي. فقد كان يعتبر أن الأرض لا يمكن أن تكون موضوعاً للملكية الخاصة ويجب أن تخدم أولاً وقبل كل شيء تأمين الجماهير الشعبية.

اقترح تقسيم جميع الأراضي الزراعية إلى جزأين:

  1. الصندوق العام (الاجتماعي): يدار بواسطة الإدارة العامة المجتمعية (البلدية)، ويهدف إلى ضمان الحد الأدنى الضروري من الأرض لكل مواطن.
  2. أراضي الخزانة (الخاصة): يمكن استغلالها من قبل الخزانة أو توزيعها على الأفراد لأغراض خاصة حسب تقدير السلطة المركزية.

الآراء حول القوميات والدين

لم يكن بيستل ليبرالياً في مسألة القوميات والدين.

  • وحدة الأمة: لم يعترف بحق تقرير المصير لغير الروس في الإمبراطورية، باستثناء البولنديين. واشترط على بولندا، في حال انفصالها، أن تتبنى نظاماً اجتماعياً وسياسياً مماثلاً لروسيا.
  • الروسنة القسرية: دعا إلى التوحيد القسري لروسيا وعدم الاعتراف باللغات المحلية. وطالب بتبني جميع السكان غير الأرثوذكس للديانة الأرثوذكسية والانضمام إلى الشعب الروسي.
  • الأقليات: رأى بيستل ضرورة إخضاع الشعوب «الهمجية» (مثل بعض قوقازيي). وفيما يخص اليهود، اعتبرهم مستغلين ضارين للطبقة الفلاحية، واقترح ترحيل جميع اليهود الذين لا يرغبون في اعتناق المسيحية بشكل جماعي إلى فلسطين.

4. الاعتقال والمحاكمة والإعدام

الاعتقال

في 13 (25) ديسمبر 1825، أي قبل يوم واحد من اندلاع الثورة في سانت بطرسبرغ، تم اعتقال بافل بيستل في تولتشين، في بودوليا. جاء الاعتقال بناءً على وشاية من أ. إ. مايبورودا، وتم عزله في اليوم نفسه من قيادة الفوج.

نُقل بيستل إلى سانت بطرسبرغ في 3 يناير 1826، وسُجن في قلعة بطرس وبولس، وتحديداً في حصن أليكسيفسكي.

السير في التحقيق

في البداية، نفى بيستل معرفته بأي شيء يخص الأهداف والتصرفات الداخلية للجمعيات السرية، معتقداً أن المعلومات التي وصلت للحكومة جاءت عبر التجسس. لكن بعد وصوله إلى سانت بطرسبرغ وإدراكه مدى اطلاع الحكومة على تفاصيل المجتمعات، بدأ بيستل في تقديم إفادات مفصلة، تميزت ببنائها الرياضي ومنطقها العقلاني.

كان بيستل يميل في إفاداته إلى تعميم المسؤولية، محاولاً توحيد الجمعيتين الجنوبية والشمالية في خططهما للإصلاح وإلقاء ثقل التهمة على المجتمع ككل بدلاً من الأفراد. ويرى الباحثون أن هذه الإفادات هي التي شكلت إلى حد كبير التصور التاريخي المعروف اليوم عن الجمعية السرية.

في 11 يوليو 1826، وبعد ستة أشهر من السجن، حُكم على بيستل بالإعدام، وكان الحكم في الأصل هو التقطيع إلى أربعة أجزاء، ولكنه استُبدل بالشنق.

الشنق والنهاية

في 13 (25) يوليو 1826، نُفذ حكم الإعدام بحق بافل بيستل وأربعة من القادة الآخرين للديسمبريين (كوندراتي ريلييف، سيرجي مورافيوف-أبوستول، ميخائيل بيستوزيف-ريومين، وبيوتر كاخوفسكي) في كرو نفيرك بقلعة بطرس وبولس.

قبل إعدامه، أعرب بيستل عن اعتقاده الراسخ بأن الأفكار التي زرعها «يجب أن تنبت، وستنبت حتماً في المستقبل». كما أبدى استياءه من طريقة الإعدام قائلاً: «ألم نستحق موتاً أفضل؟ لم ندر ظهورنا قط للرصاص أو القذائف. كان من الممكن أن يتم إطلاق النار علينا».

دُفن بافل بيستل مع الديسمبريين الآخرين الذين أُعدموا في جزيرة جولوداي.

5. بافل بيستل: الشخصية والتأثير

وصف المعاصرون بيستل بأنه شخصية بارزة ذات ذكاء عالٍ وقوة في الروح والعزيمة. كان الجنرالات، مثل فيتجنشتاين وكيسيليوف، يقدرونه تقديراً عالياً. وكان بيستل يتمتع بالقدرة على إقناع زملائه بقوة منطقه.

على الرغم من قدرته على القيادة وتفانيه التام في قضيته (في الجيش أولاً ثم في الحركة الثورية)، والذي وصل إلى حد التضحية بأمواله الخاصة لدعم فوج فياتكا، إلا أنه لم يكرس وقتاً كافياً لحياته الشخصية ولم يتزوج. ومن خلال مراسلاته، يظهر أنه كان ابناً حنوناً ومهتماً بوالديه حتى أيامه الأخيرة.

لقد كان بيستل في حركته الثورية أشبه بمهندس معماري وضع مخططاً كاملاً وشاملاً لمجتمع جديد. إن روسكايا برافدا، بتركيزها على المركزية المطلقة والإصلاح الديمقراطي الجذري للأرض، جنباً إلى جنب مع استعدادها اليعقوبي للقمع والديكتاتورية، مثلت مساراً فريداً ومثيراً للجدل داخل الحركة الثورية الروسية، حيث وضعته في تضاد واضح مع الاتجاه الفيدرالي والملكي الدستوري للجمعية الشمالية.