الكثيرون يخلطون بين «انحياز» و«تحيز» في حياتنا اليومية، بيد أنّ التمييز بينهما أمر بالغ الأهمية. فمثلًا، حينما نتهم شخصًا بالاصطفاف مع طرف ضد طرف، هل يجب أن نقول «هذا الشخص منحاز» أم نقول إنه «متحيز»؟ ماذا عن الحالة التي تميل بها عقولنا في اتخاذ قرارت أو أحكام لامنطقية ولاعقلانية، هل نقول «الانحيازات الاستعرافية» أم «التحيزات الاستعرافية»؟ لكي نعرف الإجابة ينبغي علينا أولًا، أن نحلل صرفيًا، كلا الكلمتين. فكلمة «تحيز» تأتي على وزن تَفَعُّل، وهذا الوزن له دلالاته، منها التكلف والصيرورة، فلو قلنا أنه يأتي بدلالة التكلف، لكن معنى «تحيز» يعني أن الشخص اختار تكلفا واجتهادًا الميل بتجاه طرف ما. ولكن دلالة التكلف في الكثير من الأحيان، في هذا الوزن، تعني أن الشخص يحاول جاهدًا أن يكون أو أن يظهر ما ليس هو عليه، كأن نقول «تشجّع»، أي استجمع قواه ليظهر شجاعة ليست في أصلها سمة من سماته الجوهرية، والأمر سيّان مع «تصّبر» و«تجلّد» والخ. ولهذا السبب لا تأتي دلالة «تحيز» من التكلف؛ بل بالأحرى من الصيرورة. لكن مهلًا، ما المقصود بكلمة «صيرورة»؟ هل التحول من حالة أخرى بشكل طبيعي، كما هو الحال في الفلسفة أم التحول والتغير الواعي؟ الحق أن هذا الوزن يحمل كلا الدلالتين. على سبيل المثال، نقول «تحجر الطين»، أي صار حجرًا بفعل عوامل خارجية طبيعية. ونقول «تعلّم المرء»، أي تحول من حالة الجهل إلى حالة العلم بإرادة واعية. والحق أيضًا، أن الدلالتين قد تتداخلان أحيانًا، التكلف والتحول معًا؛ فالتعلم فيه اجتهاد للتحول من حالة الجهل إلى حالة العلم. لكن ما يهمنا هنا، أن هذا الوزن قد يفيد، عمومًا، التحول الإرادي. فحينما نتهم شخص أنه «متحيز» نعني أنه، لربما في فطرته السليمة، غير متحيز، لكنه صار متحيزًا، وكان واعيًا بذلك واستمر في الأمر.
أما «انحياز»، فهي كلمة تأتي على وزن انفِعال، وهذا الوزن يشير إلى انحراف أو ميل قد يكون غير إرادي، أو لا يتضمن الدافع الشخصي الواضح. عندما نقول إن شخصاً «منحاز» إلى جهة معينة، فهذا قد يدل على أنه قد يميل لها أو يتبعها دون أن يكون هذا الميل ناتجًا عن اختيار واعٍ أو متعمد، وإنما بناءً على تأثيرات خارجية، ثقافية أو بيئية، تجعله يميل إلى هذا الاتجاه دون إدراك أو قصد.
إذا طبقنا هذا الفهم على «الانحيازات الاستعرافية»، نجد أن استخدام كلمة «انحياز» هنا هو الأنسب؛ إذ تشير «الانحيازات الاستعرافية» إلى ميول عقلية أو إدراكية غير واعية تجعلنا نتخذ قرارات أو نطلق أحكاماً غير منطقية، وغالبًا ما تكون هذه الانحيازات خارجة عن سيطرتنا. وتحدث هذه الانحيازات في عقولنا كاستجابة تلقائية وغير واعية، مما يعني أنها لا تعكس بالضرورة رغبة شخصية وإنما تفضيلات ذهنية مبرمجة أو تلقائية. على سبيل المثال، «الانحياز التأكيدي» هو ميل الفرد بشكل غير واعي لتأكيد ما يؤمن به سلفًا. فمثلًا، قد تؤمن بأن لعشبة ما فائدة صحية للكبد، فبدلًا من أن تبحث لدحض هذه المعلومة، تسعى عفويًا لتأكيدها عن طريق البحث في الإنترنت عن فوائد هذه العشبة للكبد، بدلًا من أن تقوم بالبحث عن أضرارها للكبد. وهذا ميل طبيعي للدماغ نحو التأكيد. ونحتاج إلى بذل جهد واعٍ لمقاومة هذا الانحيازات قدر الإمكان.
أما في السياقات الاجتماعية والسياسية، عندما نتحدث عن شخص يختار الوقوف إلى جانب طرف معين ويدافع عنه بوضوح وعلنية، فيكون التعبير الأدق هو «التحيز»؛ لأنه يعبر عن موقف محدد يتم اتخاذه عن وعي وربما بميل عاطفي أو شخصي تجاه ذلك الطرف.
خلاصة القول أن الانحياز هو ميل لاواعٍ أو غير متعمد، يحدث نتيجة عوامل بيئية أو نفسية تؤثر على الشخص دون إدراكه، فتدفعه للانجراف نحو اتجاه معين بشكل غير مقصود بالضرورة. أما التحيز فهو اختيار واعٍ يميل فيه الشخص بإرادته إلى جانب معين، مدفوعًا بقناعة شخصية أو مصلحة خاصة، بحيث يصبح قراره مبنيًا على وعي كامل ورغبة في دعم ذلك الاتجاه.